بلاتر.. «ديكتاتور فيفا» والخيار الأخير الرجل المخضرم أكد أنه لا يخشى المساءلة
ألقاب عدة تطلق على السويسري ضئيل الحجم، منها «الأخطبوط» و«نابليون» و«الثعلب الصغير»، وجميعها تنطبق عليه، فبلاتر الذي يتحدث الفرنسية والإنجليزية والألمانية بطلاقة يدرك حسابات خطواته، فهو رجل خبير بالاقتصاد، ويعلم معنى الصبر والقتال من تجربته في الجيش السويسري، لذا عرف كيف يكسب معاركه ويفرض سيطرته على مقعد رئاسة جمهورية العالم لكرة القدم حتى ولو كانت كل «أوروبا مهد اللعبة» ضده.
لا يعيره وصف الديكتاتور فهو يقود «فيفا» منذ عام 1998، نجح خلالها في فرض سيطرته وسطوته مستعينا بمقدراته الشخصية أحيانا، وجبروت الاتحاد الدولي أحيانا أخرى، وأكد خلال مسيرته وبما لا يدع مجالا للشك أنه الرجل القادر على تحطيم خصومه حتى وإن كان مطاردا بفضائح فساد.
وما زالت في أذهان المتابعين لكرة القدم العالمية ذكريات المعركة الانتخابية الأولى أمام رئيس اتحاد الكرة الأوروبي آنذاك، السويدي لينارت يوهانسون عام 1998، وكيف استطاع الأخطبوط بلاتر أن يفوز برئاسة «فيفا» خلفا للبرازيلي هافيلانج (الداعم القوي له)، وما تردد بعد ذلك من اتهامات بدفع رشى للكثير من ممثلي الاتحادات لأجل ترجيح كفته.
وتكرر الأمر في عام 2002 بانتصار كاسح على رئيس اتحاد الكرة الأفريقي، عيسى حياتو، في موقعة استطاع فيها بلاتر الاستعانة بأقوياء اللجنة التنفيذية لتحجيم تطلعات المنافس الأفريقي.
وبعد أول معركتين أدرك المنافسون على ما يبدو أنه لا سبيل أمامهم في الفوز على بلاتر، فتم ترشيحه بالتزكية لفترة رئاسية ثالثة عام 2007.
واختلف الحال في عام 2011. فقد بدأ بلاتر الإعداد لحملة ترشحه لولاية رابعة في أعقاب جدل واسع، حول فوز كل من روسيا وقطر بحق تنظيم كأس العالم لعامي 2018 و2022. وانقسم رجال «فيفا» بين معسكر مؤيد وآخر مشكك، قبل أن تطفح على السطح قضايا فساد هزت أرجاء الاتحاد الدولي.
وما زاد من سخونة سباق الترشح لرئاسة «فيفا» عام 2011 هو دخول القطري محمد بن همام، رئيس الاتحاد الآسيوي آنذاك، منافسا لبلاتر، فأصبح صديق الأمس عدوا، وانفتحت الملفات السرية ليفاجأ العالم بانسحاب بن همام ثم باتهامه بقضايا فساد قبل أن تصدر لجنة القيم التابعة لـ«فيفا» قرارها بحرمانه من العمل الرياضي مدى الحياة. وانفتح الطريق أمام بلاتر للفوز بولاية رابعة وتعهد العجوز السويسري أن تكون هي الأخيرة له في رئاسة أكبر منظومة في العالم.
وبعد أن قطع بلاتر عهدا أنه لن يترشح لولاية خامسة عمل خلافا لذلك على إدخال تعديلات على قوانين المنظمة العالمية لا تحدد عمرا معينا للمرشح ولا عدد الولايات المتتالية.
وعلت الأصوات وكان أوضحها للفرنسي ميشال بلاتيني رئيس الاتحاد الأوروبي متهما السويسري بـ«الخداع والكذب»، وكثرت الترشيحات في وجه «الأخطبوط» حتى رسا العدد الأخير على ثلاثة منافسين انسحب منهم رئيس الاتحاد الهولندي ميكايل فان براغ والدولي البرتغالي السابق لويس فيغو ليبقى الأمير علي وحيدا في السباق.
لكن لا العاصفة الهوجاء التي طالت 14 مسؤولا في الفيفا بقضايا فساد، ولا الاصطفاف الذي تشكل، أثرا على انتخاب بلاتر من الجولة الثانية، وهو الذي قال في كلمة قبل التصويت «حملوني مسؤولية العاصفة، لكنني أعد بفيفا قوي»، مضيفا: «أنا معكم وببساطة أريد أن أبقى معكم أنا ربان لسفينة تترنح لكن سأقودها إلى بر الأمان».
وأوضح «أن الفيفا يحتاج إلى قائد قوي ومحنك لديه تجربة ويعرف الخفايا.. كل ما قمنا به ونقوم به وسنقوم به مبني على الثقة والمبادئ والروح الرياضية، ولكن سوف نقوم بتغيير بعض الأشياء».
كان بلاتر حتى قبل الانتخابات الأخيرة بيومين يعتقد بأن انتخابه لولاية خامسة سيكون مسألة روتينية كما جرت العادة خلال الانتخابات الأربعة السابقة رغم وجود الأمير علي في وجهه، لكنه صدم بالزلزال القضائي الذي وضع كثير من رجاله المقربين في دائرة الشبهات.
يحسب لبلاتر أنه جلب الكثير من الأموال للاتحاد الدولي ومساهمته في الارتقاء باللعبة في البلدان الفقيرة، لكن الرجل «الثعلب» هو من تبنى فكرة عدوه بن همام، لتنفيذ مشروع الهدف، ببناء مراكز للاتحادات وملاعب في البلدان التي تعاني ماليا لينال دعم القارات المستضعفة كرويا أمام سطوة أوروبا، وهو الأمر الذي كان له تأثير كبير في التصويت الأخير حيث رجحت أصوات أفريقيا وآسيا أسهمه أمام الأمير علي.
ديكتاتور الفيفا المنتخب، صرح بعد لحظات من فوزه بأنه يسامح الجميع لكنه لن ينسى، في تلميح ضد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي شنت الحرب ضده. وأوضح بلاتر أن الأحداث التي سبقت إعادة انتخابه للفيفا «تنبعث منها رائحة كريهة» وأنه كان ضحية للكراهية. ولمح بلاتر إلى أنها لم تكن مجرد مصادفة أن تلقي الشرطة السويسرية القبض على سبعة مسؤولين كبار في كرة القدم بينهم نائب رئيس الفيفا جيفري ويب قبل يومين من المؤتمر السنوي للاتحاد الدولي وانتخابات الرئاسة التي تتهمهم الولايات المتحدة بالفساد.
والاعتقالات متصلة بفضيحة رشوة تحقق فيها الولايات المتحدة وسويسرا ووكالات أخرى لإنفاذ القانون ووضعت الفيفا في خضم أسوأ أزمة في تاريخه الممتد منذ 111 عاما.
وقال بلاتر: «لن يستطيع أحد أن يقنعني بأنها كانت مجرد مصادفة أن يحدث الهجوم الأميركي قبل يومين من انتخابات الفيفا وبعد ذلك رد فعل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ورئيس الاتحاد الأوروبي ميشال بلاتيني. لا يستطيع أحد أن يقنعني… لست متأكدا لكنه ليس أمرا جيدا». وتابع: «لماذا لم تفعل الشرطة ذلك في مارس (آذار) الذي شهد الاجتماع نفسه. في هذا الوقت كان هناك عدد أقل من الصحافيين».
وقال بلاتر: «إنها كراهية ليست فقط من شخص واحد في الاتحاد الأوروبي لكن من منظمة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم التي لم تفهم أنني الرئيس منذ 1998».
ظهر رئيس الاتحاد الدولي السابق لكرة القدم أشبه برجل أعزل دخل عرين الأسد عندما واجه ممثلي وسائل الإعلام في أول مؤتمر صحافي عقب انتخابه، ورغم الخبرة والجرأة التي يتمتع بها في التعامل مع مثل هذه المواقف، وجد صعوبة في إيجاد الردود المثالية وظهرت عليه العصبية لدى تلقيه بعض الأسئلة.
وتعددت أسئلة لم يألفها من قبل، ما بين «هل أنت خائف من الاعتقال؟» و«لماذا لم تتنح عن الرئاسة؟»، فوقف بلاتر البالغ من العمر 79 عاما مكتوف الأيدي وبذل قصارى جهده من أجل تصوير نفسه بأنه الرجل الوحيد القادر على إصلاح المنظمة ووجد مخرجا له بالهجوم على أعدائه الرئيسيين في أوروبا.
الرجل الذي استطاع من قبل التغلب على كل منافسيه من يوهانسون رئيس الاتحاد الأوروبي القوي إلى تدمير بن همام والقضاء على التريندادي جاك وارنر (رغم أن الأخيرين كانا من أبرز مسانديه وهما نائبان للفيفا)، يعلم أن غالبية دول العالم غير مقتنعة بفوزه بولاية خامسة وأن دائرة التربيطات والمصالح هي التي رجحت كفته.
ومع اعتقال سبعة أشخاص في سويسرا وشخص آخر في ترينداد وتوباغو، بالإضافة إلى أربعة أشخاص آخرين اعترفوا بتهم فساد تتعلق بالفيفا في التحقيقات الأميركية، لا تزال الكثير من التساؤلات تحيط بمدى قدرة الفيفا على إصلاح نفسه.
وكان خصوم بلاتر في السابق أغلبهم منافسين في حقل كرة القدم، لكن الدائرة اتسعت الآن لتضم رعاة وسياسيين وخصوما من أوروبا ينادون بضرورة تغيير كامل في ثقافة الفيفا.
ودخل الأمير البريطاني ويليام دائرة النقاش بشأن الفيفا باعتباره رئيسا للاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، على هامش نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي يوم السبت الماضي بقوله: «من يدعمون الفيفا، مثل الرعاة والاتحادات القارية، يجب أن يؤدوا واجبهم بالضغط من أجل هذه الإصلاحات، إننا نعمل لمصلحة كرة القدم ولن يرضى مشجعوها إلا بذلك».
لقد أعلن الإنجليز الحرب على الرجل المخضرم منذ ما يزيد عن 10 سنوات لأنهم يرون أن بلاتر وحاشيته من الفاسدين كانوا وراء إقصائهم من سباق الفوز بتنظيم كأس العالم مرتين، الأولى عام 2006 لصالح ألمانيا، والثانية لعام 2018 لصالح روسيا، رغم أن ملفهم كان الأقوى بشهادة الخبراء في المرتين.
ووسط سحب الدخان التي تحيط بالـ«فيفا» ورجاله، قدم الأخطبوط بلاتر استقالته لأنه أدرك بنفسه أنه لم يمر بلحظات مريرة كهذه من قبل، فإن رأب الصدع في أكبر منظمة تدير كرة القدم قد يستدعي هذه المرة التضحيات.
إن بلاتر الذي سبق أن عمل في شبابه مديرا للعلاقات العامة في شركة «لونجين» السويسرية لصناعة الساعات، يراعي الدقة في خطواته، كما عقارب الساعة، وهو يحمل تجربة تراكمية في مؤسسات مختلفة جعلت منه خبيرا في التعامل مع كافة القضايا.
لقد عمل بلاتر رئيسا لشؤون الأفراد بهيئة «واليس» للنقل، ثم سكرتيرا عاما للاتحاد السويسري لهوكي الجليد، ثم خبيرا تسويقيا، قبل أن يفوز برئاسة الجمعية السويسرية للصحافة الرياضية، وهو المنصب الذي دفعه للانضمام لعائلة: «فيفا» عام 1975.
وقام الرئيس السابق للفيفا، جواو هافيلانج، بترقية بلاتر لمنصب السكرتير العام للاتحاد عام 1981، حيث تولى هذا المنصب خلفا لهيلموت كايزر الذي أصبح والد زوجة بلاتر بعدها بوقت قصير، قبل الخلاف والقطيعة. وفي عام 1998، أي بعد 17 عاما أخرى، تولى بلاتر رئاسة الفيفا خلفا لهافيلانج.
مسيرة بلاتر، الذي يشهد له الجميع بالدهاء، حافلة بالإنجازات كما هي حافلة بالصراعات والشبهات، ويحسب لرئيس «فيفا» رؤيته الاقتصادية التي جعلت من الاتحاد الدولي لكرة القدم أغنى منظمة رياضية وغير رياضية، فهو صاحب فكرة التسويق الإعلاني طويل الأجل لبطولاته، التي كانت وراء ضخ المليارات لـ«فيفا»، والإيمان بدور كرة القدم كمركز جذب للتنمية البشرية صحيا وتعليميا.
يحسب أيضا لبلاتر الوفاء بتعهده بأن كرة القدم للجميع، والجميع لا بد من العمل لأجل كرة القدم، فوضع بصمته في ملاعب أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا والدول الفقيرة. وهو من ساند التنظيم المشترك لمونديال 2002 في كوريا الجنوبية واليابان، وقاتل من أجل تنظيم أفريقيا مونديال 2010.
لكن على الوجه الآخر، كان توزيع ثروات الفيفا محل ارتياب مؤسسات الرقابة المالية وزيادة رقعة الفساد في المنظمة الكبرى، خاصة أن اللجنة التنفيذية بأعضائها العشرين كانت هي المتحكمة في كل الأمور في السابق قبل أن تتحول السلطات لأعضاء الكونغرس العام (209 أعضاء).