نبض القلب السوداني: ذكريات مدرسة النعيم في غربة الرباط …
ظلت مدرسة النعيم الابتدائية، -التي تتوسط قريتي النعيم تلك الواحة المنسية على ضفاف النيل الأبيض- تمثل منارة العلم وقلعة المعرفة التي يشع منها سنا العلم ليضيء عتمة الجهل وينشر الوعي والثقافة والمعرفة.
جمعتنا هذه المدرسة بأفضل الزملاء الذين أضحوا من خيرة الرجال، وكانت مباني الفصول الدراسية تجدد كل عام حينما ينهك هطول المطر بناءها، وكنا نتزاحم يسبقنا الشوق إلى المدرسة كأننا الحجيج في ظلال عرفات، وكانت السبورة سوداء كليلة مثل “دبوكات” حسان بنات أهلي، وكان الطباشير في أيدي الأساتذة مشاعل نور تضيء طريقنا بـ”كتابي الأول وكتابي الثاني”.
وكان المعلمون في النعيم وضيئين كشيوخ القبيلة، يحملون العصا عند اللزوم بحزم، ويتفانون في تعليمنا مسك القلم، وفك الخط، ورسم الحروف الصحيح، كما كنا نتعلم الحساب بـ”عد الأغنام وأعواد القصب”، والجغرافيا من خلال “في القولد التقيت بالصديق”، وصديقنا “منقو زمبيري”.
وحينما دخلت مدرسة أولادي في الرباط، تفاجأت من جمال وروعة عمرانها فهي تبدو مثل قصر من قصور ألف ليلة وليلة! جدرانها ملونة كأنها لوحة فنان مجنون، والفصول مكيفة كأنها غرف في فندق خمس نجوم، السبورة الذكية فيها تتكلم أكثر من المعلم نفسه!.
أما المعلمون هنا فيلبسون البدلات كأنهم وزراء، ويستخدمون التكنولوجيا كأنهم علماء ناسا، ويتعلم الأولاد اللغات كأنهم في برج بابل، والرياضيات كأنهم يحسبون ثروة قارون.
في النعيم، كانت ساحة المدرسة مليئة بالحب والإعزاز والصداقة ونحن نقوم بـ”النضافة الصباحية” لحوش المدرسة ونصطف بعد ذلك في الطابور الصباحي، بينما يزدحم فناء المدرسة بالرباط -على صغره- بالألعاب والأنشطة الزاهية الملونة.
من أجمل اللحظات التي لا تنسى في النعيم حينما يقرع جرس الفطور ونذهب لتناول الطعام الذي كان يتكون في الغالب من “العصيدة” السخنة الشهية وهي تغرق في أشهى أنواع “الملاحات الشعبية”، أو “الكسرة أو الفول” أحيانا، وكنا نشرب من “المزيرة” التي كانت تحتل مكانا استراتيجيا في “راكوبة” حبوبة خديجة، بينما وجدت قائمة الطعام في مدرسة أولادي أطول من قصيدة عنترة، والمياه المعدنية المعبأة في القناني متعددة الماركات والشركات، ولكنها لم تروقني ولم ترويني مثل “كوز موية” أحضر للمنزل بـ”خرج” عمنا المرحوم “أحمد الجامعي”.
في النهاية، يا أصحاب الطفولة وسنين العمر النضرة، رغم كل هذه الفروق، فإن مدرسة النعيم علمتنا أن نصنع المجد من لا شيء، وأن نحول الصحراء إلى واحة بقوة الإرادة، أما مدرسة الرباط، فتعلم أولادنا كيف يجمعون بين ثقافة سودانية قروية وثقافة بلد ومجتمع يعيشون فيه ليصبحوا مواطنين عالميين.
ولكن علينا أن نتذكر، أن الإبل التي تربت في “الصعيد” هي التي تصمد في رحلة الحج الطويلة، وأن شجرة الليمون مثل التي نمت في حوشنا في النعيم هي التي تعطي أحلى الثمار، فلا يجب أن ننسى أخواني “أبناء سليم” فضل تلك المدرسة التي صنعت منا رجالاً أوفياء، نحملها معنا في سويداء الفؤاد أنى رحلنا …
الصادق البديري
صحفي سوداني
يوليو 2024 الرباط