“أجنحة للطيران: عندما يغادر الأبناء العش لأول مرة”
بسم القلم والحبر، أخط لكم قصة قلب أبٍ يتأرجح بين شوق وخوف: في ليلةٍ سكنها القمر، وجدتُ نفسي أمام لحظةٍ فارقة في رحلة الأبوة، محمد وعمر، زهرتا بستاني، على أعتاب مغامرةٍ جديدة، بعيدًا عن حضن الدار وعيني الساهرة.
تراود خاطري صور طفولتهما، كيف كنتُ أراقب خطواتهما الأولى بقلبٍ خافق، وها أنا اليوم أشهد خطواتهما نحو الاستقلال بقلبٍ يعتصره الألم والفخر معًا.
العرائش، تلك المدينة البعيدة، تبدو الآن كأنها في قارةٍ أخرى، أتخيل صغيريَّ وهما يستكشفان عالمًا جديدًا، يصنعان ذكريات، ويتعلمان دروسًا لن يجدانها في كتب المدرسة.
يا لها من محنةٌ عذبة! أن أرى فلذات كبدي يكبرون، يطيرون من العش، وأنا أقف على حافة الوكر، أراقب بعينٍ دامعة وقلبٍ فخور.
هل سيتذكران تعليماتي؟ هل سيشعران بالحنين إلى بيتهما؟ أم سيغمرهما فرح المغامرة فينسيان كل شيء؟
في هذه اللحظات، أدرك أن الأبوة هي فن الإرسال والانتظار، نزرع البذور، نسقيها بحبنا، ثم نراقب بأمل وخوف كيف تنمو وتزهر بعيدًا عنا.
محمد وعمر، يا فرحة قلبي وقرة عيني، اذهبا واستكشفا العالم، وتذكرا دائمًا أن هناك قلبًا ينبض بحبكما، وبيتًا يحتضن ذكرياتكما، وأبًا ينتظر عودتكما بشوقٍ لا يوصف.
وإلى أن تعودا، سأبقى هنا، أحرس الدار، وأعد النجوم، وأدعو الله أن يحفظكما ويرعاكما، فأنتما نوري في الظلام، وأملي في الغد، وفخري الأبدي.
في غمرة هذه المشاعر المتلاطمة، أجد نفسي أتأمل في معنى الأبوة الحقيقي، إنها ليست فقط في الحماية والرعاية، بل في منح الأجنحة للطيران، والثقة للاستكشاف، والشجاعة لمواجهة العالم.
أتذكر كلمات والدي (حفظه الله) حين كنت في مثل عمرهما، كيف كان يشجعني على خوض التجارب بنفسي، والآن، وقد أصبحت أباً، أفهم عمق حكمته وصعوبة قراره.
ليتني أستطيع أن أخبئهما في جيبي، أو أن أرافقهما كظلهما، ولكن الحياة علمتني أن الحب الحقيقي يكمن في إطلاق السراح، في الثقة بأن ما غرسناه فيهما سيكون بوصلتهما في رحلة الحياة.
وبينما أودعهما، أشعر بفخر يملأ صدري، فها هما يخطوان خطواتهما الأولى نحو استقلالهما، نحو اكتشاف ذاتهما وقدراتهما. وأنا هنا، أراقب بصمت، أدعمهما من بعيد، وأنتظر بشغف لأسمع قصصهما عند عودتهما.
فليكن هذا المعسكر في العرائش بداية رحلة طويلة من الاكتشاف والنمو، وليعودا إلينا محملين بالخبرات والذكريات، وبعيون تلمع بالثقة والفخر.
وحتى ذلك الحين، سأظل هنا، قلبي معلق بهما، وعيناي ترنوان إلى الأفق، منتظراً عودتهما بفارغ الصبر.
*** الصادق البديري
صحفي سوداني