عندما يصبح الحزن لوحة : أصيلة تودع محمد بن عيسى في شهر الرحمة
الدكتور : الصادق البديري
صحفي سوداني
على شاطئ الأطلسي ، تستلقي قرية أصيلة المغربية بسكون وهدوء، كأنها تتأمل الأمواج التي تلامس شواطئها برفق، لكن هذه القرية الصغيرة تحمل في طياتها قصة كبيرة ، قصة رجلين عظيمين: محمد بن عيسى والطيب صالح، اللذين حولا قرية صيادين بسيطة إلى منارة للثقافة والفن والإبداع.
التقيت محمد بن عيسى مرتين في الرباط، وفي كل مرة كان حديثه عن أصيلة يجعلني أشعر وكأنني أتنفس هواءها البحري النقي ، وأستمع إلى أمواجها الهادئة.
كان يتحدث عنها بشغف الأب الذي يتحدث عن ابنته المدللة، وبفخر الفنان الذي أبدع لوحة استثنائية.
“أصيلة كانت حلماً ،” قال لي ذات مرة ، “حلماً رأيناه أنا والطيب صالح، وقررنا أن نحوله إلى حقيقة”، كانت كلماته مفعمة بالصدق والعمق، لدرجة أنني وجدت دموعي تنهمر دون إرادة مني ، لم تكن دموع حزن، بل دموع تأثر برؤية إنسانية كبيرة ، برجل يؤمن بقوة الثقافة في تغيير العالم …
حكى لي كيف كانت أصيلة في بداياتها، مجرد قرية صغيرة تعاني الإهمال والنسيان ، “كانت الحوائط متهالكة، والشوارع مهملة، والحياة فيها تكاد تقتصر على الصيد وانتظار العائدين من البحر ،” قال بحسرة …
ثم أضاف بابتسامة : “لكننا رأينا فيها إمكانيات هائلة ، رأينا في بساطتها وعراقتها وموقعها الساحر فرصة لخلق شيء مختلف …”
وهكذا في عام 1978، انطلق “موسم أصيلة الثقافي” ليس فقط كمهرجان ثقافي ، بل كمشروع لإعادة إحياء المدينة كلها.
بدأ بن عيسى والطيب صالح بدعوة فنانين تشكيليين من مختلف أنحاء العالم لتزيين جدران أصيلة بلوحات فنية، “كانت تلك نقطة البداية ،” شرح لي بن عيسى ، “أردنا أن نحول المدينة نفسها إلى معرض فني مفتوح ، وأن نجعل الفن جزءاً من الحياة اليومية للناس.”
تدريجياً ، بدأت أصيلة تتحول، تحولت الجدران المتهالكة إلى لوحات فنية، وتحولت الساحات المهملة إلى فضاءات للحوار والنقاش ، وتحولت المدينة بأكملها إلى ورشة إبداعية مفتوحة .
كان مشروع أصيلة أكبر من مجرد مهرجان ثقافي؛ كان مشروعاً لإعادة إحياء مدينة بأكملها، ونموذجاً لكيفية استخدام الثقافة كأداة للتنمية والتغيير.
“كانت رؤيتنا أنا والطيب أن الثقافة ليست ترفاً، بل هي أداة للتنمية والتغيير الاجتماعي ، ” أخبرني بن عيسى ، و”أردنا أن نثبت أن المدينة الصغيرة المنسية يمكن أن تصبح منارة ثقافية عالمية، وأن الفن والثقافة يمكن أن يغيرا وجه المجتمع.”
وبالفعل، نجح المشروع نجاحاً باهراً، وأصبحت أصيلة مقصداً للمثقفين والفنانين من كل أنحاء العالم ، وشهدت ساحاتها حوارات فكرية عميقة، ومنتديات ثقافية متنوعة ، ومعارض فنية متميزة، وتحولت من قرية صغيرة منسية إلى نموذج يُحتذى به في العالم العربي وخارجه .
“أصيلة اليوم هي ثمرة حلم مشترك،” قال لي بن عيسى بفخر ، “هي ثمرة إيماننا أنا والطيب بقوة الثقافة في تغيير العالم، هي دليل على أن الرؤية الثقافية الواضحة، والإرادة القوية ، يمكنهما أن يحققا المعجزات .”
واليوم ، وقد رحل بن عيسى تاركاً أصيلة يتيمة للمرة الثانية بعد رحيل الطيب صالح ، أتساءل: ماذا سيكون مصير هذا الحلم …؟ هل سيستمر في النمو والتطور، أم سيذوي مع رحيل صاحبه …؟
أتذكر كلمات بن عيسى الأخيرة لي: “أصيلة لم تعد مجرد مشروع شخصي ، بل أصبحت ملكاً للعالم ، هي فكرة ، ورؤية ، ونموذج يمكن استنساخه في كل مكان”.
وأتمنى أن تكون كلماته هذه صحيحة ، وأن يستمر حلم أصيلة في النمو والتطور ، وأن تظل منارة للثقافة والفن والإبداع .
في هذا الشهر الفضيل ، وبينما ننعى محمد بن عيسى ، لا يسعنا إلا أن نترحم عليه، وأن ندعو له بالرحمة والمغفرة …
رحل الرجل ، لكن إرثه باقٍ في كل زاوية من زوايا أصيلة ، في كل لوحة فنية تزين جدرانها، في كل حوار ثقافي يُعقد في ساحاتها .
رحمك الله يا محمد بن عيسى ، وجزاك خير الجزاء على ما قدمت للثقافة والفن والإبداع ، وستظل أصيلة شاهدة على رؤيتك وحلمك ، وستظل منارة ثقافية تضيء طريق المثقفين والمبدعين في كل مكان .